بشرى المقطري
معركة الحديدة.. كربلاء الحوثيين
[ الاربعاء, 27 يونيو, 2018 ]
انطلقت في فجر الرابع عشر من يونيو/ حزيران الحالي معركة استعادة مدينة الحديدة من قبضة مليشيات الحوثي في ما اصطلح على تسميتها عملية "النصر الذهبي"، وفقاً لإعلام التحالف العربي.
وبقدر ما أكدت السياقات السياسية أن هذا يأتي في ظل ضوء أخضر أممي للتحالف، لتجريد المليشيات من شريانها الحيوي، فإن من الصعب التكهن، في الوقت الراهن، بالمدى الذي ستذهب إليه معارك الحديدة، والعمر الزمني لحسم التحالف المعركة.
إلا أن التحشيد العسكري لأطراف الصراع في اتجاه الحديدة وتطورات المعارك، وكذلك خطابات أطراف الصراع، يؤكد أن المعركة مفصلية، ستخاض حتى النهاية، ومهما كانت نتائجها، وكلفتها على المدنيين.
كأي جماعة مقامرة، تدرك جماعة الحوثي أن خسارتها مدينة الحديدة ومينائها تعني، في المقام الأول، عزلها في مناطق شمال الشمال، بما في ذلك تجفيف مصدرها الرئيس في تمويل حروبها في جبهات القتال المختلفة.
ولذلك ستخوض معركة الحديدة باعتبارها معركة مصيرية، ستحدّد وفق نتائجها، ليس تموضعها في ظل الحرب فقط، وإنما مصيرها السياسي في المستقبل، في حين تخوض السعودية، قائدة التحالف العربي، والإمارات، معركة الحديدة لانتزاع نصر مريح، حتى لو كان ذلك مكلفاً على اليمنيين، فالدول الكبرى لا ترى في معركة الحديدة سوى أنها فرصةٌ لانتزاع أموال إضافية من خزائن دول التحالف العربي.
مهدت الإمارات لمعركة الحديدة بمحاولة إيجاد إجماع يمني داخلي، يتجاوز مشاعر اليمنيين السلبية حيال أجنداتها في جنوب اليمن، إذ أدركت الإمارات حاجتها لمظلةٍ شرعيةٍ تخفي تحتها غاياتها الحقيقية من معركة الحديدة. ووجدت مرغمة في شرعية حليفها اللدود الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، الغطاء الضروري لشرعنة معركتها في الحديدة.
في هذا السياق، رتبت زيارته إلى أبو ظبي، ونجحت بانتزاع موافقته لبدء المعركة، بهدف تجفيف أي معارضة من حلفاء الشرعية المحليين المناوئين للإمارات في اليمن، وترتب على ذلك السماح للرئيس هادي بالعودة إلى مدينة عدن، بعد أكثر من عام ونصف العام من الإقامة الجبرية في الرياض.
ورغم أن قرار معركة الحديدة قد اتخذته سابقاً الإمارات والسعودية، وافق هادي أو رفض، فإن إدراك الأخير وحلفائه في الشرعية بأن نتائج معركة الحديدة لن تكون أبداً في صالحهم، وإنما ستغير شكل السلطة اليمنية في المستقبل القريب، ألقى بظلاله على سير المعركة.
كان إجماع المجتمع الدولي على ضرورة نزع التحالف ميناء الحديدة من سيطرة مليشيات الحوثي العامل الحاسم الذي فرض توقيت المعركة، فقد أيدت الدول الكبرى، وكذلك مجلس الأمن، عمليات التحالف العربي في الحديدة. حتى روسيا التي طالما عارضت إقحام الحديدة في الصراع الأهلي اليمني، أكدت تصريحات مندوبها في مجلس الأمن الإجماع الدولي حيال حسم مصير الحديدة.
وكشفت حالة الإجماع غير المسبوقة عن إدراك المجتمع الدولي أن أفضل وسيلة للتعامل مع مقامرة مليشيات الحوثي هي دفع الحرب اليمن إلى مستوىً آخر من الصراع، بحيث يؤدي ذلك، في النهاية، إلى الضغط على الحوثيين، لقبول التفاوض بشأن الحديدة، وأن أنجع وسيلةٍ في الحالة اليمنية هي الكي، لا تضميد الجراح المتعفنة.
واكتفت المنظمات الدولية، الإغاثية والحقوقية العاملة في اليمن، بدعوة المتصارعين إلى تحييد المدنيين في المدينة، وكان ذلك إعلاناً منها باخلاء مسؤوليتها الأخلاقية عما سيترتب على اقتحام المدينة من مضاعفات على الصعيد الإنساني.
يبرز الدور المحوري واللافت لبريطانيا في تهيئة معركة الحديدة، بما في ذلك تحديدها ساعة الصفر، فقبل بدء العملية العسكرية للتحالف، صرّحت بريطانيا، وبشكل مفاجئ، عن تلقيها إنذارا إماراتيا بأن الهجوم على المدينة سيكون في غضون ساعات، وذلك بعد انقضاء المهلة التي منحتها الإمارات للمليشيات للانسحاب من المدينة.
وللتغطية على دورها السياسي في التحضير لمعركة الحديدة، دعت بريطانيا إلى انعقاد جلسة طارئة لمجلس الأمن، لمناقشة تطورات الحديدة، تلتها جلستان مغلقتان في الأسبوع نفسه، وحدّدت جلسة مجلس الأمن الأولى المزاج الدولي حيال الحديدة، إذ اكتفى بالطلب من المتصارعين "خفض التصعيد العسكري في المدينة".
ولم تكتف بريطانيا بذلك، بل ذهبت بعيداً في دعمها التحالف، حيث أيدت منطلقات السعودية والإمارات في تحرير مدينة الحديدة ومينائها، بما في ذلك استخدامها المبعوث الأممي إلى اليمن، مارتن غريفيث، مواطنها بريطاني الجنسية، ورقة ضغط على مليشيات الحوثي.
وذك لتحديد مسار التفاوض بشأن إخلاء الحديدة في مقابل وقف المعارك، وتسهيل خروج آمن لمقاتلي الحوثي، كما أكّدت جلسة الأمن المنعقدة في 12 يونيو/ حزيران الحالي الدعم البريطاني المطلق للتحالف.
فتبنّت مندوبة بريطانيا في مجلس الأمن، الخطاب السياسي والعسكري للتحالف العربي، بأن لا يشكل الميناء مصدراً لتهريب الأسلحة الإيرانية لمليشيات الحوثي، مع تطمينها للمجتمع الدولي ببقاء الميناء مفتوحا طوال المعارك.
يكشف الموقف البريطاني تقاطع شبكة مصالح الدول الكبرى في اليمن، واتفاقها ليس فقط حيال مصير الحديدة، وإنما في مقاربتها للحرب والأزمة اليمنية، وهو تأبيد الوصاية السعودية والإماراتية على اليمن، كون ذلك يصب في خدمة مصالحها الحيوية.
تمثل مدينة الحديدة، بمينائها والجزر التابعة لها، وكذلك موقعها الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر، محور ارتكاز في رقعة شطرنج المصالح الدولية، وهو ما دفع هذه الدول إلى تأييد السعودية والإمارات لحسم الصراع على الحديدة.
فالاثنتان تريدان الانتصار في هذه المعركة بأي ثمن، ما يعني انتزاع بريطانيا صفقات عسكرية وتجارية معهما، لتعوّض بريطانيا ما تعتقده بأن أميركا أخذت نصيب الأسد في صفقات الأسلحة مع دول التحالف.
وهو ما دفع فرنسا، الدولة التي ظلت تنأى بنفسها عن أي مشاركة عسكرية أو لوجستية في حرب اليمن، إلى إعلانها تقديم الدعم للإمارات، وذلك بالتكفل بنزع الألغام التي زرعتها مليشيات الحوثي في مدينة الحديدة.
في حسابات أطراف الحرب اليمنية وحلفائهم، والدول الكبرى المؤيدة لهم، لا خسارة في مدينة الحديدة، فكل طرفٍ سيربح نصيبه من المعركة، بما في ذلك مليشيات الحوثي التي وجدت معركة "كربلائية" تلائم معتقداتها الدينية.
ومن ثمّ فإن المقامرين والمغامرين لن ينظروا بعيداً إلى كلفة حربهم على اليمنيين، فدخان الحديدة لن يحرق سوى المدنيين المحاصرين في المدينة وأريافها، والمدنيين في مناطق سيطرة مليشيات الحوثي.
لكن ما لم يحسبه المجتمع الدولي، أو ما لا يبالي به، أن معركة الحديدة، ليست أبداً مثل تحرير مدينة عدن، فستقاتل مليشيات الحوثي حتى آخر نفس، كما أن استعادة التحالف لمدينة الحديدة قد لا تكون مقدمة لإيجاد حل سياسي في اليمن، بل إجبار جماعة الحوثي بالقوة على قبول الانخراط في التفاوض في هذه المرحلة على الأقل.
لكن زجّ أكثر من مليون يمني في مدينة الحديدة، من سكانها والنازحين إليها، يعيشون في مجاعةٍ محققةٍ منذ أربعة أعوام من الحرب، بما في ذلك انعدام الشروط الإنسانية في مدينة أنهكتها المليشيات هي مغامرة غير محسوبة العواقب.
تكشف الحرب الدائرة في اليمن، وفي مدينة الحديدة خصوصا، أن المجتمع الدولي وأطراف الصراع لا يقيمان وزنا لنتائج حماقاتهم على اليمنيين، فمن أجل "خراب مالطة" يمنية أخرى يمكن تبرير كل شيء.
* العربي الجديد
مشاركة: