الرئيسية > أخبار اليمن
صحيفة بريطانية تكشف الدور الذي تلعبه الإمارات في عدن وكيف حولت حياة الناس إلى جحيم ؟
المهرة بوست - متابعات
[ الإثنين, 24 ديسمبر, 2018 - 08:42 مساءً ]
كشفت صحيفة The Guardian البريطانية الدور الخفي الذي تلعبه الإمارات في مدينة عدن جنوب البلاد، من أجل فرض أجندتها واستراتيجيتها في البلد الذي يعاني من ويلات الحرب فيما تحقق أبوظبي كل ما تريده في الجنوب.
الصحافي البريطاني غيث عبدالأحد مراسل الصحيفة البريطانية نقل الصورة الكاملة للأوضاع في جنوب اليمن بتقرير له ترجمه موقع "عربي بوست"، وكشف فيه كيف يعامل الإماراتيون السكان الرافضين للانفصال من خلال الأجهزة الأمنية التي كونتها أبوظبي ودعمتها لأجل هذا السبب تحت ذريعة محاربة التنظيمات المتطرفة.
وقال الصحافي البريطاني، قبل أربع سنوات، كان أيمن عسكر في سجن في جنوبي اليمن، يقضي عقوبةً بالسجن المؤبد بتهمة القتل. أما الآن، فهو رجلٌ ثري ومهم تتقاطع صداقاته مع الكثير من خطوط الحرب الأهلية المتشظية التي دمَّرَت البلاد. عُيِّنَ عسكر، مؤخراً، رئيساً للأمن في ضاحيةٍ كبيرة في مدينة عدن الساحلية في الجنوب –عيَّنَته حكومة اليمن، التي تقصف السعودية، نيابة عنها، البلاد منذ ثلاث سنوات ونصف. لكنَّ عسكر أيضاً صديقٌ وحليفٌ للإمارات العربية المتحدة– أكثر الشركاء عدوانية في التحالف الذي تقوده السعودية والذي يقاتل لاستعادة حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي أجبره تمرد الحوثيين، عام 2015، على ترك منصبه.
اجتذب السعوديون الجزء الأكبر من استياء العالم بسبب تدخُّلهم الدموي في اليمن، لكنَّ الإمارات تؤدي دوراً أقوى على الأرض، وقد عُرِفَ حلفاؤها في الجنوب، بما في ذلك ميليشياتٌ محلية ومقاتلون سلفيون، علاوة على انفصاليي جنوب اليمن الذين يريدون الانفصال عن حكومة هادي، بالقتال ضد وكلاء السعودية في البلاد.
أعداء الأمس أصدقاء اليوم
واليوم، يتحالف عسكر مع حكومة اليمن والإمارات العربية المتحدة، لكن منذ فترةٍ ليست بالبعيدة كان عسكر عضواً في تنظيم القاعدة، المعادي لحكومة اليمن والإمارات على حدٍّ سواء. شقَّ عسكر ذو البنية المتينة والرأس الضخم المستند إلى أكتافٍ واسعة، طريقه إلى أعلى التسلسل الهرمي في حياة السجن: إذ كان يدير متجراً للبقالة في ساحة السجن، ويدير زنزانةً للعب الـ»بلاي ستيشن»، وصاحَب أقوى عصابة في السجن، وهي مجموعةٌ من سجناء القاعدة. كان يصلي معهم، ويحضر دروسهم، وأطلق لحيته وبدأ في ارتداء أزياء مشابهة لأزيائهم، مع أنَّ أصدقاءه يقولون إنه لم ينضم قط للتنظيم بشكلٍ صحيح لأنه شديد الانتهازية ليدين بالولاء لقضيةٍ واحدة.
عندما غزا المقاتلون الحوثيون، القادمون من شماليّ اليمن والمدعومون من إيران، الجنوب وأطاحوا الحكومة في العاصمة، صنعاء، وأجبروا هادي على الفرار جنوباً إلى عدن، ثم إلى السعودية، كان عسكر لا يزال في السجن. لكن في خضم الفوضى التي أعقبت ذلك، اقتحم مقاتلو القاعدة السجن وحرَّروا سجناءه. انضمَّ عسكر للمقاومة وقاتَلَ ضد الغزاة الحوثيين جنباً إلى جنبٍ مع أصدقائه الجهاديين، مُمَيِّزاً نفسه بوصفه قائداً ميدانياً شرساً ومُقسِّماً وقته بالتساوي بين القتال والنهب، بحسب الصحيفة البريطانية.
بعد بضعة أشهر، طُرِدَ الحوثيون من عدن على يد خليطٍ من الميليشيات المحلية، والانفصاليين الجنوبيين، والقوات الحكومية والإماراتية والسعودية. وسَّعَ عسكر اهتماماته إلى ما هو أبعد من الجهاد، ففرض إتاوةَ حمايةٍ على الميناء وابتزَّ عمولةً مقابل كل شحنة تمر. ومع أنَّ الحكومة أصدرت عدداً من مذكرات الاعتقال بحقه، فإنه نجا منها جميعاً. وسرعان ما صادَقَ الضباط الإماراتيين الذين كانوا قد وصلوا بوصفهم جزءاً من القوات التي استولت على المدينة، وأمضى أوقات طويلة في دبي وأبوظبي، عقد خلالها علاقات. وقد كوفِئ على صداقته بعقد نقل مربح، وانتقل منذ ذلك الحين إلى العمل المربح بنهب مساحاتٍ واسعة من الأراضي الزراعية حول عدن.
وتابع الصحافي البريطاني، التقيت عسكر في الصيف بينما كان يستضيف أصدقاءه في مزرعته جنوب عدن. كانت المزرعة خصبة وخضراء وهادئة، بعيدة كل البعد عن شوارع عدن المزدحمة الخانقة. كان عسكر يمزح ويحكي قصصاً من رحلته الأخيرة بالخارج، بروح دعابة قاطع طريق. إذ استأجر هو وصديق له ثلاث سيارات مرسيدس بسائقيها، لنقلهم وزوجاتهم وأطفالهم حول منتجعات شرم الشيخ في مصر، وأخذهم إلى الحدائق المائية والشواطئ ومطاعم المأكولات البحرية.
قال عسكر لأصدقائه المُتَحلِّقين حوله: «كان أسبوعاً من النعيم. كان الأطفال سعداء للغاية، وكان يمكن للمرء نسيان جميع متاعب الحرب».
أمراء الحرب
وبحسب الصحافي البريطاني ليس أيمن عسكر سوى أحد الأشخاص الذين استفادوا من الحرب في اليمن، وهو صراعٌ أطلقت عليه الأمم المتحدة وصف أسوأ كارثة إنسانية في العالم، إذ يقدر أنَّ 14 مليون شخص مُعرَّضون الآن لخطر المجاعة. وقد نتج، الأسبوع الماضي، عن محادثات السلام في السويد التي ترعاها الأمم المتحدة، وقفٌ مؤقَّتٌ لإطلاق النار بين الحوثيين والقوات الموالية للحكومة في مدينة الحديدة الساحلية على البحر الأحمر، التي تُعَدُّ بوابةً مهمةً لإدخال المساعدات الإنسانية إلى البلاد. وكان الحوثيون قد سيطروا على المدينة منذ عام 2015، لكنها تتعرَّض منذ أشهر لهجومٍ من قوات التحالف السعودي الإماراتي، مما أدى إلى تحذيرات بوقوع كارثة إنسانية أسوأ.
إذا استمر وقف إطلاق النار –وهو أمرٌ ليس بالمؤكد– فسوف يطلب من كلا الجانبين سحب قواتهما من الميناء. ومن شأن نجاح الهدنة في الحديدة أن يُمهِّد الطريق للتقدُّم في الجولة القادمة من المحادثات، المُقرَّر عقدها أواخر شهر يناير/كانون الثاني. لكنَّ الحرب لم تنته بعد.
في الواقع، فإنّ هذه الحرب لم تعد حرباً واحدة. بدأ الأمر صراعاً بين عدوين اثنين واضحين؛ التحالف الذي تقوده السعودية والمتحالف مع الحكومة ضد الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران. لكنَّ قوة التدخل والتمويل الخارجيين –لا سيما من الإمارات– ساعدت على تشظي الحرب إلى صراعاتٍ مُتعدِّدة ومناوشاتٍ محلية لن تنتهي بالضرورة عند التوصُّل إلى أيِّ اتفاق سلام. فاليمن الآن خليطٌ من إقطاعياتٍ مُدجَّجة بالسلاح ومناطق فوضوية، يزدهر فيها قادةٌ ومُتربِّحون من الحرب وألف ملك من قطاع الطرق، من عينة أيمن عسكر.
ثمة حربٌ إقليمية بين الشمال والجنوب، اللذين كانا دولتين منفصلتين ومتحاربتين لوقتٍ طويل قبل عام 1990. وثمة حربٌ طائفية بين الزيديين الشيعة، مثل الحوثيين، والسلفيين السُنَّة. وإلى جانب خطوط الصدع الأساسية هذه، ثمة الكثير من الصراعات الأصغر، التي اشتعلت وتفاقمت بفعل الأموال والأسلحة التي توفرها قوى خارجية لأيِّ شخصٍ يُعتَقَد أنه سوف يُنفِّذ أجندتها.
الحكومة اليمنية –ذات عشرات الوزراء ونواب الوزراء– مختلةٌ وظيفياً وفاسدة، وهي في المنفى منذ عام 2015 في مجمع فندقي سعودي. لدى الحكومة جيش قوامه 200 ألف جندي، على الرغم من أنَّ الكثير منهم لم يتلق رواتبه أو يوجدون بوصفهم جنوداً أشباح، أي مجرد أسماء في قائمة، ويختلس قادتهم رواتبهم.
صراعات التحالف الداخلية
بل إنَّ الائتلاف الذي تقوده السعودية مليء، هو نفسه، بالصراعات والتنافسات، إذ يسعى كلُّ عضوٍ من أعضائه الرئيسيين وراء أجندةٍ منفصلة ويتآمر على الآخرين. ففي تعز، وهي مدينة في وسط اليمن حاصرها الحوثيون وقصفوها لأكثر من ثلاث سنوات، ينقسم مقاتلو التحالف إلى أكثر من عشرين فصيلاً عسكرياً منفصلاً –بما في ذلك ميليشيات محلية تدعمها وتُموِّلها الإمارات، فضلاً عن تنظيم القاعدة وجهاديين آخرين. ويبدل بعض المقاتلين ولاءاتهم وفقاً لمن يُقدِّم الأموال.
قبل عامين، عندما ذهب أحد المشايخ القبليين السُنَّة من مدينة البيضاء –على خط الصدع التقليدي بين الشمال الزيدي والجنوب السُنِّي– طلباً لمساعدة الإمارات في معركته ضد الحوثيين، أخبره جنرال إماراتي بأنَّ المتمردين الحوثيين «لم يعودوا أولويتنا أو عدونا الأكبر». وقيل للشيخ إنه لو أراد الحصول على أسلحةٍ من الإمارات، فسوف يتعين عليه أيضاً أن يقاتل ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والقاعدة وحزب الإصلاح الإسلامي الذي يؤدي دوراً مهميناً في الحكومة ذاتها التي أرسلت الإمارات، ظاهرياً، قوات إلى اليمن بغرض الدفاع عنها.
والآن، ثمة ثلاث قوى مختلفة تقاتل عبر أراضي الشيخ، كلُّ واحدةٍ منها يدعمها واحدٌ أو حتى اثنين من الفصائل الأساسية في التحالف: الإمارات والسعودية وحكومة اليمن. كلُّ جيشٍ في هذه المنطقة المؤلفة من التلال الوعرة والأحجار البركانية السوداء، قد تلقى معداتٍ عسكرية وشاحنات ورواتب للمقاتلين تبلغ قيمتها ملايين الدولارات. وفي غضون ذلك، لم يعد باستطاعة المزارعين في هذه الأراضي ذاتها شراء البنزين لجراراتهم، فصاروا يتحرَّكون ببطء خلف حميرٍ ضامرةٍ تدفع محاريث خشبية بينما يصبح أطفالهم مقاتلين وأعضاء ميليشيا، بحسب الصحيفة البريطانية.
استراتيجية الإمارات في اليمن
وبحسب الصحيفة البريطانية يبدو أنَّ الإماراتيين هم الوحيدون من أعضاء التحالف الذين لهم استراتيجية واضحة. إذ يستخدمون الجيوش الخاصة التي أنشأوها ودرَّبوها وموَّلوها في محاولةٍ لسحق كلٍّ من العسكرية الجهادية والأحزاب السياسية الإسلامية مثل الإصلاح. وعبر الساحل الجنوبي، حيث تحالفت الإمارات مع الحراك الجنوبي الانفصالي المعادي لكلٍّ من الحوثيين وحكومة هادي، بنى الإماراتيون عدداً من المعسكرات والقواعد العسكرية وأنشأوا ما يُعتَبَر في الأساس دولةً موازية، لها أجهزتها الأمنية الخاصة التي لا تخضع للمساءلة أمام الحكومة اليمنية. وقد كشفت منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش عن وجود شبكة من السجون السرية التي تديرها الإمارات والقوات الوكيلة عنها، المتهمة بإخفاء وتعذيب أعضاء الإصلاح، والمقاتلين المعادين للحوثيين من الفصائل المنافسة، وحتى النشطاء والمنتقدين للتحالف السعودي الإماراتي. وقد اعتاد الوزراء اليمنيون الإشارة إلى الإماراتيين بوصفهم «قوة احتلال».
وكانت الاستراتيجية العسكرية السعودية المتعثِّرة قد شملت، بشكلٍ كبير، قصف المدنيين بلا هوادة. ودَفَعَ حصارهم لموانئ اليمن ملايين الأشخاص إلى حافة المجاعة. وفي السنتين الأخيرتين تقلُّص دور السعودية إلى لعب دور صانع السلام بين حليفيها الإمارات وحكومة اليمن.
وقال لي قائدٌ يمني مقيم في عدن، الصيف الماضي: «كنَّا نأمل أن يتدخَّل السعوديون لوقف حماقة الإماراتيين، لكنهم ضائعون. فالحرب لا تجري بشكلٍ جيد بالنسبة لهم، ولا يستطيعون الاهتمام بما يحدث في الجنوب، لذا فقد سلَّموا ذلك الملف إلى الإماراتيين».
ويُظهِر ما حقَّقه الإماراتيون في اليمن –من إنشاء جيوش خاصة، ودعم الانفصاليين في الجنوب والتآمر لتدمير النظام السياسي مع السيطرة على الممرات الاستراتيجية في بحر العرب والبحر الأحمر– دولة صغيرة وطموحة للغاية تبرز قوتها في المنطقة والعالم.
كانت الحرب الأهلية المدمرة التي بدأت عام 2015، في طور الإعداد منذ سنوات، لكنَّ أكبر شرارة لها كانت عام 2011، في خضم الربيع العربي، عندما أطاحت حركة احتجاجاتٍ شعبية بالرئيس السابق، علي عبد الله صالح. كان صالح قد حكم من خلال نظامٍ مُعقَّدٍ من الفساد والمحسوبية لعقود ثلاثة، لكن بخلاف الديكتاتوريين العرب المخلوعين الآخرين، لم يُسجَن أو يفر من البلاد. وإنما سمحت له تسويةٌ، جرى التفاوض عليها بدقة بوساطة من الأمم المتحدة وجيران اليمن الخليجيين، بالتنحي وتجنَّبَ الملاحقة القضائية، بينما تولَّى نائبه، هادي، منصب الرئيس. لكن في الوقت الذي كان يناقش فيه ممثلو مختلف الفصائل في البلاد عملية انتقال سياسي في العاصمة، كانت بعض هذه القبائل والأحزاب، في الشمال والجنوب، تقاتل لفرض إرادتها على الأرض، فمزَّقت أوصال البلاد ودفعتها نحو حربٍ أهلية أخرى، كما تقول الصحيفة البريطانية.
من بين هذه القوى المتناحرة الكثيرة، كان الحوثيون، أو أنصار الله كما يطلقون على أنفسهم، الأكثر تنظيماً ودفعاً إيديولوجياً. إذ كانوا يعتقدون أنَّ لديهم مهمة إلهية. وكان حسين بدر الدين الحوثي، مؤسِّس الحركة، قائداً دينياً هاجم فساد نظام صالح وكان يلقي خطباً ذات خليط كبير من إيدولوجية معاداة الغرب والإحياء الإسلامي (يمثل الزيديون، وهم طائفةٌ شيعية توجد بشكلٍ كبير في اليمن، حوالي ثلث سكان البلاد، لكنَّ نسختهم من التشيُّع مختلفةً للغاية عن تلك التي تُمارَس في إيران والعراق).
الحوثيون والاستيلاء على صنعاء
وفي أواخر عام 2014، سار الحوثيون من الشمال إلى الجنوب واستولوا على العاصمة صنعاء –بمساعدة وحدات من الجيش كانت ما تزال مواليةً للرئيس صالح. وبعد أن فرَّ هادي جنوباً إلى عدن أوائل عام 2015، اقتحم الحوثيون المدينة ونفوه. وبعد يومٍ واحد من ظهوره في الرياض، بدأ تحالف تقوده السعودية وشمل جيوش الإمارات وقطر والبحرين والسودان ومصر وبدعمٍ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، قصف صنعاء نيابةً عن الحكومة اليمنية المنفية.
أجبر الحوثيون هادي على الخروج، لكنهم لم ينجحوا قط في احتلال عدن بشكلٍ كامل. وبين ليلةٍ وضحاها تقريباً امتلأت المدينة برجالٍ محليين مُسلَّحين بالبنادق مع «قادتهم»، الذين تجمَّعوا في المدارس والمباني الحكومة والميادين. لم يكن ثمة هيكل، إذ تجمع الأصدقاء والنشطاء والجيران أو الأقارب حول أيِّ زعيمٍ في الحي ذي كاريزما، أو رجل غني أو بلطجي. كان بعضهم سلفيين، وبعضهم انفصاليين جنوبيين، وبعضهم من تنظيم القاعدة، وبعضهم مجرد شباب عاطلين. وفي كثيرٍ من الأحيان لم يكن ثمة خطوط واضحة تفصل هذه المجموعات. فقد يكون القائد انفصالياً جنوبياً وسلفياً في الوقت ذاته، وكثيرٌ من الشباب الذين انضموا للجماعات الجهادية لم يفعلوا ذلك لأسباب أيدولوجية وإنما كراهية للحوثيين وإعجاباً بانضباط الجهاديين وإمداداتهم الوفيرة من الأسلحة. كانت آلاف الاختلافات تفصل بينهم، ويُوحِّدهم أمر واحد: قتال الحوثيين.
لم تكن جميع فصائل المقاومة غير منظمة إلى هذه الدرجة. فالسلفيون، الذين أسَّسوا قاعدتهم في ملعبٍ لكرة القدم، كانوا متفانين ومتحمسين ومنضبطين، وسرعان ما برزوا بوصفهم أقوى عناصر المقاومة ضد الحوثيين. إذ قال لي أحد المشايخ السلفيين، الذي كان يدير قوةً خاصة به: «كان السلفيون قد اتخذوا القرار بقتال الحوثيين حتى قبل دخولهم عدن. بالنسبة لنا كانت الحرب دفاعاً عن الطبيعة السنية للمجتمع. نحن قاتلنا الحوثيين بوصفنا قوةً دينية. قاتل الجميع تحت قيادتنا: الفصائل الدينية، والجنوبيون، وبلطجية الشوارع وحتى القاعدة. أحياناً كان الأطفال يتوقَّفون عن القتال إذا لم يكن لديهم إنترنت ولم يستطيعوا الدخول على صفحتهم على فيسبوك». وكذا فقد أصبح السلفيون، لأسبابٍ طائفية وأيدولوجية، قناةً للأسلحة والأموال التي يرسلها التحالف العربي، ما أدى إلى تمكينهم أكثر.
جمعت الحرب الحماسة الانفصالية لاستقلال جنوب اليمن، والطائفية السلفية والجهادية المعادية للشيعة. كان ذلك خليطاً متفجِّراً واجتاح المدينة. كان أيُّ شماليّ في عداد المشتبه بهم، وأُلقِيَ القبض على المئات واحتُجِزوا في الستاد، بتهمة أنهم عملاءٌ حوثيون. وفي شهر ديسمبر/كانون الأول 2015 حُفِرَت مقبرتان جماعيتان في مكانٍ قريب.
الإمارات تحرك الانفصاليين
استمر احتلال الحوثيين لعدن 4 أشهر فحسب. وبعد طردهم، كان للانفصاليين في الحراك الجنوبي آمال عريضة. فللمرة الأولى منذ عام 1994 -عندما سحق الشمال الجيش الجنوبي بسهولة لينهي محاولة الانفصال– أصبحت المدينة بلا أي سيطرة شمالية. كانت جميع القوى الأمنية في أيدي الجنوبيين، وكانت لديهم أسلحة وحليفة قوية، هي الإمارات العربية المتحدة، التي سيطرت على الجبهة الجنوبية.
ولما كانت الإمارات هي من يدعم عدن، فقد ظنَّ أهلها أنَّ المدينة سوف تصبح دبي القادمة، وسوف تأتي الكهرباء والمياه والوظائف. وقال لي الحاكم المتحمِّس، وهو جنرالٌ سابق عاد من لندن للمساعدة في إعادة بناء المدينة، إنَّ الشركات سوف تتسابق على المدينة. سوف تستعيد عدن مجدها القديم. وسوف يستعيد ميناؤها، الذي كان راكداً قبل الحرب، مكانته السابقة. وسوف تعيد السفارات فتح أبوابها. وفي الشهور التي أعقبت مغادرة الحوثيين عام 2015، كان يحتفى بالإماراتيين بوصفهم مُحرِّرين، وكانت أعلامهم تُباع في أكشاك السوق، وزيَّنَت صور حكامها زوايا الشوارع والأسلحة، بحسب الصحيفة البريطانية.
أما في الشوارع، فقد كان الواقع مختلفاً. إذ كانت «عدن المُحرَّرة» تشبه المدن الأخرى التي دمَّرَتها الحرب الأهلية التي أعقبت الربيع العربي، مع الدبابات الصدئة المحترقة والعربات المصفَّحة الجاثمة فوق التلال التي تشرف على مدينة من الشوارع المشوهة والمباني المدمرة، المنقلبة بعضها فوق بعض مثل رقاقات خرسانية مسحوقة، وشعب فقير بلا مأوى تحوَّلَ أفراده إلى لاجئين عشوائيين في مدينتهم. حلت عشرات الميليشيات محل ميليشيا الحوثي في مدينةٍ بلا مياه ولا كهرباء ولا شبكة صرف صحي. أصبحت الحرب رب العمل الرئيسي، وامتلأت الشوارع بمقاتلين يستقلون ظهور شاحنات النقل مُسلَّحين ببنادق آلية ثقيلة. وكان قادة مجموعات المقاومة المتفرقين المبعثرين يطالبون بحصة من غنائم مدينة محطمة فقيرة.
قام أقوى هؤلاء القادة، وهم رجال مثل أيمن عسكر، بتأمين السيطرة على الموانئ والمصانع وأي مؤسسة تولد دخلاً وفرضوا إتاوات حماية خاصة بهم. أما القادة الأصغر، فقد اكتفوا بنهب الممتلكات العامة والخاصة، لا سيما لو كانت الأخيرة ملكاً لأشخاص شماليين.
وتابع الصحافي البريطاني، قال لي الشيخ السلفي: «عندما انتهت معركة عدن، تُرِكنا في حالة من الفوضى. إذ انقسمت المدينة إلى قطاعاتٍ وكانت كلُّ قوةٍ أو ميليشيا تسيطر على جزءٍ مختلف وتتصادم مع الآخرين».
الشيخ اليمني الذي زار الإمارات!
وبحلول نهاية عام 2015، تعثَّرَت الحرب ضد الحوثيين بسبب التنافس بين أعضاء التحالف، وانتشار الميليشيات التي تسيطر على مناطق في البلاد، وتوسَّع تنظيم القاعدة إلى الجنوب. وانحسرت آمال أهل عدن بأنَّ مدينتهم الفقيرة سوف تزدهر بمساعدة إخوانهم الإماراتيين الأغنياء إلى استياءٍ وخيبة أمل. وكان الشيخ السلفي مقتنعاً بأنه يجب فعل شيء ما.
أصبح الشيخ زائراً معتاداً للإمارات، مثل الكثير من القادة اليمنيين، ليتمتَّع بضيافة رعاته الجدد ويستريح من الوضع المتدهور في عدن. وقال إنه خلال إحدى زياراته إلى أبوظبي، التقى أستاذاً جامعياً مسناً ومستشاراً لمحمد بن زايد، وليّ عهد الإمارات وقائد قواتها المُسلَّحة. صكَّ الأستاذ الجامعي عبارةً جديدة وهي «خلجنة العرب»، أصبحت رائجةً بين النخبة الحاكمة في أبوظبي. وبحسب ذلك الأستاذ الجامعي، فلكي ينجح باقي العالم العربي، فإنهم يحتاجون إلى اتباع نموذج ممالك الخليج –أي التخلِّي عن الديمقراطية والتمثيل الشعبي في مقابل توفير الرخاء المالي والأمن. اقتنع الشيخ السلفي بذلك فوراً.
وذات ليلةٍ في أبوظبي، بعد لقائه بالأستاذ الجامعي بوقتٍ قصير، جلس الشيخ في غرفته الفندقية الفخمة وبدأ في كتابة خطاب طويل لحلفائه الإماراتيين: خارطة طريق لإنقاذ جنوب اليمن والتدخُّل الذي تقوده السعودية. بعد حمد الله والثناء على الجنود الإماراتيين الشجعان، بدأ بسرد المشكلات التي تُهدِّد المغامرة الإماراتية في اليمن.
ودعا الشيخ، في بيان من 16 نقطة، بعنوان: خارطة طريق لإنقاذ عدن، إلى تشكيل قوة أمنية جديدة مؤلفة من مقاتلي المقاومة، وإنشاء جهاز استخبارات جديد، وتنفيذ «الخلجنة» من خلال حظر الأحزاب السياسية، والانتخابات لو أمكن. وشرح الشيخ قائلاً: «ينبغي لنا هزيمة القاعدة وجعل الجنوب مثلاً يُحتَذى به لكيفية تنفيذ الاستراتيجيات الجديدة للخليج».
وحذَّر الشيخ من أنَّ المشاعر الانفصالية تكتسح عدن، واقترح أن تستغل الإمارات هذه اللحظة من خلال دعم فصيلٍ موالٍ لها من الانفصاليين –جزئياً لمنع قوى أخرى، مثل قطر وإيران من استغلال الحراك الجنوبي.
وتابع عبد الأحد قال لي الشيخ: «انظر، أنا أعمل مستشاراً لدى الإماراتيين وأريدهم أن ينجحوا. فمصائرنا متشابكة: لو فشلوا وقرَّروا الرحيل، فسوف تكون كارثة وسوف تُدمر عدن. أعرف أنني بحاجة إلى الإماراتيين وأنني معتمدٌ عليهم، وفي الوقت ذاته أنا لست ساذجاً. أعرف أنَّ لديهم مشروعهم الخاص، وأنَّ لديهم أهدافهم وأجنداتهم الخاصة، لكن لا بأس في التعاون معهم».
وبعد أن عاد الشيخ إلى عدن، عمل مع جنرال إماراتي لتكوين وتدريب قوة أمنية جديدة موالية لهم وقادرة على التعامل مع الخطر الجهادي المتزايد. وبينما كان الجميع يدَّعون مساعدة مؤسسات الحكومة اليمنية وإعادة بناء جيش عصري، فإنَّ الحقيقة أنَّ الإماراتيين أرادوا قوةً عميلةً لهم يستطيعون التحكم فيها دون تدخل من الرئيس هادي، الذي كانوا يرونه عقبة –خاصةً وأنه تعاوَنَ مع حزب الإصلاح، عدو الإماراتيين.
وقال الشيخ: «كان الجيش والشرطة اليمنيين القائمين مؤسساتٍ فاسدة وفاشلة. أراد الإماراتيون قوةً جديدة. وكانت الخطة تقضي بتدريب وتجهيز قوة من 3 آلاف رجل، لكن انتهى بنا المطاف بقوة من 13 ألفاً، لذا فقد قسمناها إلى 4 كتائب. وكان القائد العام لهذه القوة الجديدة –التي أطلق عليها اسم «الحزام الأمني»– وجميع قادة الكتائب، جنوبيين وسلفيين، وكذلك بعض المقاتلين. وأصبح الشيخ واحداً من كبار القادة.
جيوش الإمارات في اليمن
وبمرور الوقت، شكَّلَ الإماراتيون عدداً من الجيوش المتناثرة في عدن وجنوب اليمن. يعمل قادة هذه الجيوش بصفتهم أمراء حرب مستقلين، بدباباتٍ وسجون وقوة موالية لهم شخصياً. وليس ثمة قيادةٌ مركزية تربط جميع هذه القوى، ولا تملك الحكومة اليمنية أيَّ سيطرةٍ عليهم.
وبدلاً من ذلك فإنهم يعملون مباشرةً تحت إمرة القائد الإماراتي العام الذي يُعيِّنهم ويقيلهم حسب رغبته، ويُوزِّع العطايا عليهم وفقاً لتعاونهم وكفاءتهم. وبخلاف وحدات جيش الحكومة اليمنية، ذات الأعداد المبالغ فيها والجنود الذين يتقاضون أجوراً غير منتظمة، فإنَّ مقاتلي القوات التي تسيطر عليها الإمارات يتقاضون أجورهم بانتظام ويرتدون ملابس أفضل ويجهزون تجهيزاً أفضل، مع ميل للأقنعة السوداء والوحشية المتطرفة. فيحتجزون ويُعذِّبون ويقتلون، ويتمتَّعون بحصانةٍ في ذلك.
وأشار الصحافي البريطاني، التقيت أحد قادة الحزام الأمني في قاعدته شماليّ عدن، بالقرب من نقطة تفتيش كبيرة تفصل المدينة عن محافظة لحج المجاورة، حيث للجهاديين حضورٌ قوي للغاية. قال هذا القائد إنه عندما وصل للمرة الأولى، كان لمقاتلي القاعدة مواقع على بعد أقل من 200 متر. وكانوا يسيطرون على المحافظة بأكملها.
وشَرَحَ القائد كيف تغلَّبَت قواته. إذ قال: «كان قتالاً صعباً. على مدى أسابيع كنا ننام ساعتين أو ثلاث ساعات فحسب. كنا نقوم بدوريات ونختطف المشتبه في انتمائهم للقاعدة.. كانت صيغةً بسيطة. القادة والأشرار قتلوا. أما أولئك الذين كنا نعتبرهم يُشكِّلون مخاطرة قليلة وقابلين للإصلاح –مثل المتعاونين أو أصحاب المحلات الذين تعاونوا معهم– فقد عذَّبناهم وسجناهم، ثم أطلقنا سراحهم بعد 6 أشهر عندما وقَّعوا تعهُّداً. أما بقية السكان فقد راقبناهم من خلال المخبرين».
وبحسب تقريرٍ للأمم المتحدة نُشِرَ العام الجاري، فإنَّ جميع الأطراف في اليمن كانت تحتجز المشتبه فيهم دون محاكمة وتعذِّب السجناء. بل كان الحوثيون يخفون الكتاب والصحافيين ونشطاء حقوق الإنسان حتى قبل أن تبدأ الحرب.
لكن لا أحد يستطيع المنافسة مع الاحتجازات والتعذيب والاختفاء القسري الذي تقوم به القوات التي ترعاها الإمارات. إذ تبع تشكيل هذه القوات عام 2016 حملة رعب غير مسبوقة. فاختطف رجالٌ مقنعون، بالليل، الناس من أسِرَّتهم. لم يعلن أي شخص مسؤوليته عن عمليات الاختطاف هذه. ومع أنَّ هذا العمل قد تم ظاهرياً لمحاربة القاعدة، فقد توسَّعَت الأهداف لتشمل أيَّ شخصٍ تجرَّأ على معارضة الوجود الإماراتي في اليمن.
الإمارات تنتهك حقوق الإنسان في عدن
وبحسب الصحافي البريطاني التقيت في الصيف محامية حقوق إنسان تعمل مع وزارة العدل اليمنية، في جمع قوائم المحتجزين وشهاداتهم وشهادات عائلاتهم. قالت لي: «توقَّعنا، بعد معركة عدن، أن يُشكِّل الإماراتيون جيشاً واحداً من المقاومة. لكنهم بدلاً من ذلك أنشأوا عشرات القوات وهم يحتجزون أي شخص يعارضهم. أصبحت مطاردة تنظيم القاعدة ذريعة –فأيُّ شخص لا يوافقون عليه يُعتَقَل وكل المعتقلين تقريباً يخضعون للتعذيب، وأحياناً ما يُعلَّقون من السقف، والكثير منهم يُعتدى عليه جنسياً. والأمر المحزن أنَّ جنوبيين يُعذِّبون جنوبيين آخرين الآن، بمباركةٍ من الإماراتيين بينما تقف حكومة اليمن عاجزةً وتراقب».
وضعت المحامية كومة من الملفات أمامي، وهي تعتقد أنَّ هناك ما لا يقل عن 5 آلاف حالة. وقالت: «ليست لدينا قوة.. نطالب بزيارة السجون لكنهم لا يجيبون. حتى لو كانوا من القاعدة حقاً، فلا يمكن تعذيبهم هكذا. إنهم يخلقون قنبلةً موقوتة من جميع أولئك الناس الذين خضعوا للتعذيب –إذ يضعون الأبرياء مع الجهادين والأطفال مع كبار السن في غرفٍ مكتظة».
وقالت لي المحامية إنَّ عدن يسيطر عليها الخوف. كانت الحياة أسهل خلال الحرب –إذ كان يكفي أن يتجنب المرء الخطوط الأمامية ويختبئ في الأماكن المغلقة. «كنَّا نسلق البطاطس ونأكلها مع الخبز، لكننا كنَّا نشعر بالأمن. أما الآن فإننا نعيش في خوف».
بعض السجناء لا يعرفون لماذا اعتقلوا. اعتُقل تلميذ شاب، يحب قراءة كتب التاريخ ومناقشتها مع أصدقائه في مقهى شيشة، من قبل مسلحين ملثمين، وضع في سيارة بيك آب ورأسه ملتصقٌ بأرضية السيارة، ثم أُخذ إلى غرفةٍ بدون نوافذ حيث احتُجز لثلاثة أسابيع. تم استجوابه عدة مرات لكنه عادةً ما كان يُترك وحيداً، وأحياناً كان يعتقد أن سجانيه نسوه. قبل إطلاق سراحه مباشرةً أخبره محققٌ أنه من الأفضل عدم الحديث عن «هذه الكتب التي تقرأها» في الأماكن العامة، ثم أرسل إلى البيت.
اعتُقل الكثيرون فقط للضغط على أفرادٍ آخرين في عائلاتهم. في مقهىً قوي الإنارة يقع إلى جانب مولٍ مزدحم- مليء بالعائلات، بفتياتٍ يرتدين عباءاتٍ طويلةٍ سوداء وفتيانٍ يرتدون بناطيل جينز ضيقة وتسريحات شعر غريبة، يشربون عصائر المانغو والليمون ويأكلون صندويشات البرغر والدجاج المقلي- التقيتُ بعبد الله، وهو تلميذٌ شابٌ في الجامعة. كان يشرب عصير الليمون بصمت، تظهر آثار التعذيب على ذراعه كلما رفع كأسه.
اعتقالات على الهوية!
في منتصف إحدى ليالي السنة الماضية، طرق ملثمون بابه وأخبروه أنهم يحتاجونه من أجل استجواب وأكدوا لوالدته أنهم سيعيدونه في الصباح التالي. وضعوا عُصابةً حول عينيه ورموه في الجزء الخلفي من سيارة بيك آب. حين نزل أدرك أنه في مقر القائد سيئ السمعة لقوات «الحزام الأمني» في عدن، أبو اليمامة، وهو ضابطٌ قديم في الصراع المديد لاستقلال الجنوب اليمني، وقد أصبح عميلاً ذا نفوذ للإمارات العربية المتحدة.
أُخذ عبدالله إلى زنزانةٍ صغيرة وتُرك هناك لعدة ساعات. «قبل الفجر، دخل أربعة رجالٍ الزنزانة. بدأوا بضربي وطلبوا مني الاعترافَ بأن أخي يعمل مع الجهاديين. أقسمتُ أنه لا يفعل. كان أخي يملك محلاً صغيراً لتصليح الموبايلات والحواسيب، ولم يكن يصلي حتى».
أخذ عبد الله قنينة ماء صغيرة من على الطاولة وعصرها بين يديه. تساقطت بضع نقطٍ من الماء على الطاولة البلاستيكية البيضاء. «أحدهم جلب قنينةً كهذه وبدأ يرش شيئاً على ظهري. شممت رائحة البترول قبل أن يشعلوه بلحظات. ركضتُ في الزنزانة، مرتطماً بالجدران وصارخاً بقوةٍ دفعت الحراس للدخول وإطفاء النار»، أخبرني عبد الله.
ما لم يعرفه حينها هو أنه كان يتم تصويره وأن أخاه المذكور كان معتقلاً بالفعل ولكنه كان يرفض الاعتراف. «حين عرضوا الفيديو على أخي، وقّع اعترافاً على الفور».
وتابع الصحافي البريطاني، أُخذ عبد الله إلى عيادة، وأطلق سراحه بعد ستة أشهر إثرَ تدخل عشيرته القوية. رفع قميصه ليريني ظهره، حيث تشوه اللحم وانكشفت الندوب. بينما أخوه لم توجه له تهمةٌ بعد ولم يطلق سراحه.
واستكمل حين سألت الشيخ السلفي عن هذه الانتهاكات، ضيّق عينيه وقال إنها ارتُكبت من قبل شركاء الإمارات المحليين. قال الشيخ: «سياسة استهداف واعتقال المشتبه بانتمائهم للقاعدة مقبولةٌ دولياً، والإماراتيون شركاء للأميركان في ذلك. استهداف المشتبه بانتمائهم للقاعدة واعتقالهم مقبول لكن أن تضع رجلاً في السجن لمدة عام، تعذيبه فقط لأن ابنه متهمٌ بالانضمام للقاعدة، فهذه مشكلة».
أبو اليمامة المرعب!
وبحسب الصحافي البريطاني، أبو اليمامة اسمٌ يجعل الرجالَ يرتعدون في عدن. إنه فخورٌ جداً بقوات النخبة التي يقودها -المدربة من قبل القوات الإماراتية الخاصة- والمرتبطة أكثر من غيرها بأسوأ الانتهاكات. جلستُ بجانبه ذات صباحٍ بينما كانت قواته تتدرب على عملية اقتحام: مجموعةٌ منهم، وكلهم كانوا يرتدون ملابس سوداء، اقتحموا غرفةً وسحبوا أحد عناصرهم منها، دفعوه بشدة ليرتطم بالأرضية الإسمنتية وقيدوه قبل أن يقتادوه إلى سيارة بيك آب ويمضوا مسرعين. كرروا نفس التدريب عدة مرات.
وتابع الصحافي البريطاني، لاحقاً حين كنا في مكتبه، أنكر أبو اليمامة كل الاتهامات حول الاعتقال العشوائي والتعذيب، واعتبرها مؤامرة من قبل الإخوان المسلمين للإساءة إلى سمعة قواته. «ما الذي تتوقع مني فعله بالذين يجوبون الشوارع حاملين أحزمةً ناسفة؟ أن أرسل لهم وروداً وأدعوهم بأدب لزيارتي!»، قال أبو اليمامة.
في الجنوب، لم يمت أبداً الحلمُ القديم بالاستقلال. مثل كل سكان المدن الملعونة بالتباين بين ماضٍ مجيدٍ وحاضرٍ بائس، ابتلي سكان عدن بالتّوق إلى ماضٍ متخيَّل. هذا التوق هو شكلٌ من الخدر غير الضار حتى تشعله الخرافات القومية أو الطائفية، حينها يصبح المزيجُ قابلاً للانفجار.
في السنوات التي أعقبت الوحدة بين اليمنين، شهد أهل الجنوب دولتهم العلمانية الاشتراكية وهي تخضع للشمال الأقوى، رأوا مصانعهم وهي تُفكك، موظفيهم يُطردون من المناصب الحكومية، أراضيهم تُؤخذ ونظامهم الصحي والتعليمي ينهار. تم استبدال دولتهم التي كانت فقيرة ولكنها تعمل بشكل جيد بنظامٍ عشائري فاسدٍ. ما كان مُفترضاً أن يكون شراكةً مع الشمال تحول ببساطةٍ إلى استيلاء.
لأكثر من عقد، قبل الربيع العربي بفترة طويلة، دعا أهل جنوب اليمن المتحمسون برومانسية، أو حتى بسذاجة، إلى نهوض دولتهم القديمة. غنوا وتظاهروا بشكل سلمي في شوارع عدن، وفي قرى على الجبال وفي الصحارى، وتمت مواجهتهم بالوحشية والعنف. أطلقت القوات الأمنية لعلي عبد الله صالح، ثم لهادي منصور -وهو جنوبيٌّ هرب إلى الشمال في ثمانينيات القرن الماضي ثم قاد جيش الشمال الذي سحق آخر محاولات استقلال الجنوب في عام 1994- أطلقت الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، واستخدمت الاعتقالات والتعذيب وأحياناً الإعدامات بدون محاكمة، لقمع «حركة الجنوب». تجاهل العالمُ وجيرانهم قضيتهم، حتى غزا الحوثيون الجنوب، ثم تغير كل شيء.
الانفصال يسير في طريقه!
وتابع الصحافي البريطاني، قال لي أحد قادة «المجلس الانتقالي الجنوبي»، وهو الهيكل التنظيمي الانفصالي الأكبر وذو النفوذ الأقوى في الجنوب بدعمٍ قوي من الإمارات، «الآن لدينا جيش، ونحن نسيطر على الجنوب، ولدينا حليفٌ إقليمي يقف بجانبنا». (كان تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي إحدى النقاط الست عشرة لخارطة الطريق التي حددها الشيخ السلفي وهو أحد أعضاء المجلس).
وقال القائد: «لم نكن أبداً بهذه القوة في الجنوب. يقول الناس أننا تحت سيطرة الإماراتيين، وكأن بوسعهم تحريكنا بجهاز تحكمٍ عن بُعد. لكن الإمارات ليست جمعيةً خيرية، بالطبع لديهم مصالحهم: تأمين الساحل، التخلص من القاعدة وأن تكون لديهم دولةُ صديقةٌ هنا في جنوب اليمن. كان الإماراتيون بحاجةٍ إلى شريك، وحين رأوا انهيار حكومة هادي، كان عليهم أن يفعلوا شيئاً».
لكن حلم استقلال الجنوب ما زال غارقاً في الخيال. في حماسهم للجنوب القديم، ينسى معظم الانفصاليين الحديثَ عن الجوع والقمع في ذلك الزمن، ويتغاضون عن تاريخٍ كاملٍ من الصراع والانقسام. انتهى الحال بأبطال الاستقلال -الذين طردوا البريطانيين في ستينيات القرن الماضي، ثم ألغوا النظام العشائري، حرروا المرأة، قضوا على الأمية، وضموا مواطنين من أبعد القرى في الصحراء إلى بيروقراطية الدولة بعد أن كانت محصورة في عدن البريطانية- انتهى بهم الحال إلى تنازعاتٍ شأنهم في ذلك شأن كل المتمردين.
اختلافاتهم حول النظرية الاشتراكية وشكل الدولة أصبحت في النهاية شخصيةً وعنيفة، فوصلت ذروتها في حربٍ أهلية دامت 10 أيام في عام 1986، وكانت النتيجة أنه تم نفي المنهزمين (بمن فيهم هادي) فيها إلى الشمال قبل أن يعودوا منتصرين، حين سحق جيش الشمال نظيره الجنوبي في عام 1994. الآن يقف الذين هُزموا في عام 1994 إلى جانب الإماراتيين، بينما يقف هادي وحلفاؤه ضدهم.
الإماراتيون يكررون ما فعلته أميركا في العراق!
وبحسب الكاتب البريطاني فإن التاريخ لا يعيد نفسه بالتأكيد، ولكن مثلما أسس الأميركان الأرضية لحرب أهلية وحشية في العراق بدعم أحد الأطراف فيه، بنفس الطريقة خلق الإماراتيون الظروف الملائمة لإعادة النزاع والحرب الأهلية في اليمن.
وتابع قال لي ناشطٌ شاب: «لم أعُد أريد الجنوب المستقل. لسنواتٍ عديدة حلمتُ أنا وأصدقائي بالجنوب، ولكن إن كانوا منقسمين لهذه الدرجة الآن، فماذا سيحصل حين يصبحون دولة. سيقتلون بعضهم في الشوارع مثلما فعلوا من قبل».
عُلِّقت لوحاتٌ إعلانية ضخمة في شوارع عدن هذا الصيف. كانت تحمل صور ولي العهد الإماراتي، محمد بن زايد، بجانب صورة هادي وبعض قادته الأقل شأناً، بعضهم ميتٌ وبعضهم حي. على الجدران كانت ثمة رسوم غرافيتي مؤيدة للإمارات وبوسترات ذات ألوان فاقعة لألوان علمها. لكن وخلال الصيف، بدأت شعارات «يسقط الاحتلال الإماراتي» بالظهور.
خلقت ثورات الربيع العربي، والفوضى التي أعقبتها، تغيراً في ديناميكيات القوى في العالم العربي. لم تكتفِ مَلَكيات الخليج بإعلان نفسها رموزاً جديدةً للاستقرار في منطقةٍ تمزقها الحروب الأهلية، بل استغلت أيضاً الفرصة لتفرض نفوذها الجديد عبر التدخل في نزاعات جيرانها، فقامت بتمويل وتسليح الميليشيات في سوريا، ليبيا واليمن، ودعمت الانقلاب العسكري في مصر.
الإمارات تبحث عن دور إقليمي
وبحسب الصحيفة البريطانية فإن الإمارات تحت قيادة محمد بن زايد، تبنت سياسةً خارجية أكثر حزماً، عازمةً على تأسيس الإمارات كقوةٍ إقليمية. لدى الإمارات ثلاث مهامٍ أساسية في اليمن، وهي مهامٌ منفصلةٌ عن دعمها للتحالف السعودي. أولاً، سحق الإسلام السياسي بكل أشكاله. ثانياً، السيطرة على ساحل البحر الأحمر الاستراتيجي المهم الذي يمتد مقابل القرن الإفريقي الذي أسست الإمارات فيه بالفعل قواعد عسكرية موزعة بين جيبوتي وإريتريا. ثالثاً، تطوير وتعزيز قواتها الخاصة التي تدرب وتشرف على قوات محلية يمنية مثل قوات «الحزام الأمني».
سعي الإمارات الواضح لهذه الضرورات الجيوسياسية لم يعجب حلفاءها في اليمن. فخلال هذا الصيف، انتشر انتقاد الإمارات في عدن، خاصةً بين الفقراء الذين اعتقدوا أن وجود جيرانهم الأغنياء سيجعل حيواتهم أفضل. بدلاً من ذلك، ساءت حالة الكهرباء في المدينة، انتشرت الأمراض القابلة للوقاية وانهيار الريال اليمني جعلهم أكثر فقراً.
في أيلول/سبتمبر الماضي، اندلعت احتجاجاتٌ في عدن وسائر الجنوب بسبب حالة الاقتصاد. وقد تلاشى الآن كل أملٍ في تطوير جديد، كما تحول الحماس لـلمجلس الانتقالي الجنوبي إلى صراعاتٍ وخصومات. حتى بين أعتى حلفاء الإمارات، السلفيين، كان ثمة ندمٌ متزايد من كون اليمنيين استُخدموا سلاحاً في حروب الآخرين.
وتابع الصحافي البريطاني كما أخبرني قائدٌ سلفي تخلى عن القتال بجانب الإماراتيين: «لمَ نرسل أفضل رجالنا ليموتوا على الجبهة، ونقصف المدنيين العالقين بيننا وبين الحوثيين، فقط لكي يسيطروا على الساحل؟».
في غرفةٍ صغيرةٍ بفندق في أحد أفقر أجزاء عدن، جلستُ مع ثلاثةٍ من قادة «حركة الجنوب»، وكلهم كانوا قد حاربوا في المقاومة وكلهم اعتبروا أنفسهم سابقاً أصدقاء للإماراتيين الذين تلقوا منهم العتاد والمال والمركبات. لكنهم جميعاً قالوا أنهم تم استهدافهم بالاعتقالات أو محاولات الاغتيال من قبل قوات «الحزام الأمني». قال أحدهم إن «الحرب ضد الإماراتيين هي مسألة وقت فقط».
الثلاثة انضموا لمعسكر هادي الآن. سألتُ أحدهم، وكان قد قضى سنواتٍ من حياته داعياً إلى استقلال الجنوب، عن سبب معاداته الآن للإماراتيين وللمجلس الانتقالي الجنوبي. فرد قائلاً: «نحن الآن في حالة فوضى، حيث يقوم ملثمون بقتل الناس واعتقالهم حسب الرغبة. ليس هذا هو الجنوب الذي دعوتُ إليه. على الإماراتيين إما أن يأخذوا الجنوب ويعلنوه مستعمرتهم أو عليهم أن يحترموا الناس والرئيس هادي».
في زيارتي الأخيرة إلى الشيخ السلفي، وجدته مُحبطاً. قال الشيخ: «أهل الجنوب يحكمونه في السنوات الثلاث الأخيرة، مع ذلك فشل». أصر على أن الإماراتيين يجب أن يبقوا لأنهم إن رحلوا فإن «عدن يمكن أن تسقط بسهولةٍ مجدداً، وكل هذه الفصائل ستبدأ بمحاربة بعضها البعض. نحتاج إلى بقائهم، لكن في نفس الوقت، أنا مستاءٌ من أخطائهم. أعرف أنهم ما زالوا يتعلمون، لأنهم لا يمتلكون الخبرة كدولةٍ استعمارية، لكنهم يتصرفون بعجرفةِ دولةٍ استعمارية».
واختتم حديثه بالقول: «أعرف أن سنتين ليست فترة طويلة في حياة دولةٍ تحاول أن تبني إمبراطورية، لكنها فترةٌ قصيرةٌ لتحويل أصدقائك إلى أعدائك».
مشاركة الخبر: