الرئيسية > منوعات
قلهات… مدينة الأسرار العمانية
المهرة بوست - عمر مجدوح
[ الجمعة, 02 نوفمبر, 2018 - 01:14 صباحاً ]
على أطلال أقدم مدينة، وعاصمة عُمانية، وقفت تلك الصبية بزيها التقليدي الجميل وألوانه البراقة، والريح تداعب «شالها» والشعر المتناثر على خديها برفقة الدمع، وهي تتعرف على مدينتها التي زارها زلزال مدمر قبل 300 عام هدّم مباني المدينة ودثر آثارها.
هذه المرة زلزلت الأرض أمامها مخرجة كل ما في باطنها من المدن المتعاقبة التي ابتلعتها، ومنبتة شجرا كان قد ذبل وشرايين مياه تجري في الأرض مرقرقة، وبشرا كانوا هنا يوما، وبينما تراقب حركتهم تسمع صوتا يتلو أبيات شعر
تَحيَّـةَ نـازِحٍ أَمسـى هَـواه / بجَنح البَحرِ من أَرضي عُمـان
فَحلّوا بالسَـراةِ وحـل أَهلـي / بأَرَضَ عُمانَ في صَرفِ الزَمانِ
فتدرك أنه مالك بن فهم المهاجر من اليمن إلى مدينتها (قلهات) في القرن الأول الميلادي، الذي انصهر مع هذه الأرض وانتمى لترابها، تلمحه عن بعد بنظرها الثاقب كزرقاء اليمامة، يمتطي جواده وخلفه جيوش من العُمانيين، فأيقنت أنها معركة (سلوت) التي حررت عُمان من الاحتلال الفارسي، وبعدها بدأت واحدة من أعظم الممالك التي دونها التاريخ (مملكة تنوخ) التي امتدت من عُمان إلى أجزاء من العراق وبلاد الشام. كما السراب يختفي كل هذا فترى مع اشتداد الريح رجلا بملابس عربية وعمّة مختلفة عن السائد في عُمان، فتدرك أنه غريب، ويلاقي الترحيب والضيافة في بيت أمير المدينة ليحكي قصته ويعرف عن نفسه : أنا محمد بن عبد الله الطنجي ألقب بـ«ابن بطوطة» قادم من مغرب الأرض إلى مشرقها.
يأخذه كبار رجال المدينة في جولة تعريفية على أهم المعالم، ووقف عند مسجد منبهر بجماله، وكتب في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» عن رحلته: «مدينة قلهات على الساحل، وهي حسنة الأسواق، ولها مسجد من أحسن المساجد، حيطانه بالقاشاني، وهو مرتفع، ينظر منه إلى البحر، والمرسى، وأكلت بهذه المدينة سمكا لم آكل مثله، وهم أهل تجارة، ومعيشتهم مما يأتي إليهم من البحر الهندي. كلامهم ليس بالفصيح مع أنهم عرب. وكل كلمة يتكلمون بها يصلونها بلا.
لم يستطيع الرحالة وعلماء الآثار فك رموز هذه المدينة ومنها سر ضريح «بيبي مريم» الذي قاوم الهزات الأرضية وعوامل التعرية حتى بقي شاهدا عليها مدى الزمان.
فيقولون مثلا: تأكل لا». اختفت المدينة المزدهرة، وأصبحت مدينة منكوبة وتلاشى منها البشر، لم يبق منها إلا ذلك المسجد الذي أصبح ضريحا، ويتراءى للصبية طيف ابن بطوطة، وقد لامست يداه الضريح المبني من طين يدمج بين الحجر والشعب المرجانية، وواجهات بنيت على شكل أقواس على النمط المغولي الذي اعتاد الهنود والفرس اتباعه في تلك الفترة، وزين بنقوش وزخارف وكتابات بعدة لغات منها، الهندية والفارسية، ويحتوي على سرداب تحت الأرض وخزان وحوض مياه، ويرجح أنه بني في القرن الثالث عشر الميلادي. على بعد أمتار قليلة من الضريح مازال طيف ابن بطوطة يقظا في وصف ملامح المدينة الساحرة والصبية «بيبي مريم» تراقب اختفاء الرحالة الشهير، وقدوم وفود من السياح للمدينة، كل واحد منهم يروي قصة وحكاية كالأساطير عن بيبي مريم، يقول أحدهم كلمة بيبي تعني «السيدة الحرة» باللغة البلوشية ويشبه الآخر الضريح بـ«تاج محل» ويعتقد أن زوجها بناه وفاء لحبهما، ويقال إنها فتاة أراد والدها الزواج منها لشدة جمالها وذكائها، فصرخت صرخة جعلت والدها ورجال المدينة يتحولون إلى حجارة، وشاركهم آخر الحديث وقال: إن «بيبي مريم» كانت تحكم قلهات إبان حكم قطب الدين ملك هرمز. وأضاف آخر: أنها كانت زعيمة للقبيلة بعد وفاة والدها وقاومت وحاربت مع أبناء مدينتها الاحتلال البرتغالي لعُمان.
كانت الصبية «بيبي مريم» تستمع إلى كل تلك الروايات محاولة أن تصرخ وتحكي قصتها الحقيقية بنفسها، لكن لا أحد منهم استطاع سماع صوتها المبحوح من كثرة صراخها، محاولة ايجاد آذان صاغية إلى أن يئست، وأيقنت أن حكايتها ستبقى لغزا وأن التاريخ خلدها كأسطورة عمانية نسجت حولها الكثير من الحكايا.
مازالت مدينة قلهات التاريخية التي أدرجتها اليونسكو عام 2018 ضمن التراث العالمي، تخفي الكثير من الأسرار والألغاز فقد تعاقبت عليها العديد من العصور والممالك والحضارات، وحظيت بزيارة العديد من الرحالة إلى جانب ابن بطوطة منهم الإيطالي ماركو بولو في القرن الثالث عشر، الذي مرّ بها خلال رحلته إلى الصين، وكتب عنها «لها موقع استثنائي، وميناؤها ضخم، يستخدم لتصدير الخيول العربية إلى الهند. وعن سكانها قال: «عرب يخضعون لهرمز وكلما وجد ملك هرمز نفسه في حرب مع ملك أقوى منه لجأ إليها لموقعها وتحصيناتها».
لم يستطيع الرحالة وعلماء الآثار فك رموز هذه المدينة ومنها سر ضريح «بيبي مريم» الذي قاوم الهزات الأرضية وعوامل التعرية حتى بقي شاهدا عليها مدى الزمان.
نقلا عن القدس العربي
مشاركة الخبر: