الرئيسية > منوعات
اليمني محمد آل زيد في «20 ميغا بكسل»: تنوع الرؤى وحيوية السرد
المهرة بوست - القدس العربي
[ الجمعة, 12 أكتوبر, 2018 - 09:02 مساءً ]
يمثل القاص اليمني المهاجر محمد آل زيد واحدا من الكُتاب الشباب، الذين خاضوا غمار القصة القصيرة باقتدار، وهو ما يتضح جليا في مجموعته الأولى الصادرة بعنوان «20 ميغابكسل» عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت.
في 173 صفحة من القطع المتوسط، تضمنت المجموعة ثماني قصص اشتغل فيها الكاتب على قضايا متعددة، تمحورت كثيرا في أهمية تحرر الفرد من قيود الاغتراب المختلفة وتجاوز (تابوهات) الثقافة البالية والالتحاق بركب الاستقلال، وتمكين الذات من التجلي الجديد للإنسان في وعيه بالذات والآخر والوطن، والحرية في معناها الإنساني المتقاطع مع التبعية العمياء للقطيع، وغيرها من القضايا التي لا يمكن وضعها بين حاصرتين؛ ذلك إنها مفتوحة على آفاق لا حدود فيها لفهم وتأويل أفكارها باتجاه معين، وتلك سمة تمنح العمل الأدبي تميزا يُعلي من شأن جودته، وهو ما يُحسب لهذا القاص، لاسيما وهذه المجموعة هي تجربته الأولى مع النشر.
تنوعت الأبنية السردية للقصص بدءا من البناء الدائري موضوعيا كالبناء في قصة «هكذا ظنت» أولى قصص المجموعة، فبينما تحكم (الحدث الصاعد) بمسار السرد، إلا أن القصة توقفت عند ليلة زفاف زواجها الثاني، الذي عاد بها إلى بداية معركتها الأولى مع (التعاسة). علاوة على ذلك جاءت معظم القصص ملتزمة، في سياقها البنائي لدراما الحدث، مسار (الحدث الصاعد)، في علاقتها بتراجيديا الصراع بين الخير والشر، خاصة في قصص «رابعهم كلبهم» و«غد مشرق، هكذا يقولون» و«جيبوتي»… وهو البناء الذي تجلى مدهشا في تركيبه وحبكته في قصة «20 ميغا بكسل»، إذ كان الكاتب بارعا في التحكم بمسارات الأحداث على ما فيها من تعدد وتقاطع وتفاعل، أينعت فيه الشخوص وتمددت الأمكنة… ففيما تقاطع الحدث الصاعد بالحدث النازل، كما جاء في قصة «مدرسة الديناصور» التي تتحدث عن تجربة أب يبحث عن مدرسة حديثة ومتطورة لأبنائه، لكن في ذلك السياق تعود الذاكرة بالأب إلى ماضي طفولته ليروي السارد، (الذي يقف خارج كل القصص) ما كانت عليه علاقته بالمدرسة، وهنا تعود القصة لتتحدث عن جيل آخر وتجربة مختلفة، لتقول القصة في الأخير مخاطبة الأب: «لا تأس على ما فات ولا تبتئس، فمازلت تحفظ عن ظهر قلب ما لقنك إياه الديناصورات، لا تأس ولا تكتئب، فأنت اليوم مهندس شبكات مرموق تقود سيارة فارهة – ليست كاديلاك- وتتحدث بلسانٍ أجنبي، وتتقاضى راتبا مجزيا، ترى ما الذي سيحصده ابنك الذي التحق بهذه المدرسة الفاخرة؟».
ناقشت القصة تأثيرات الغربة التي تسلب منك حقيقة ما كنت عليه في وطنك، من خلال حكاية عدد من شباب الفلبين المغتربين في السعودية، وتمحورت على (اليكس) و(آرت).
في سياق تلك الأبنية تنوعت الأزمنة والأمكنة والشخوص؛ فبينما أكتفت قصة «شروى نقير» بشخصيتين محورتين في زمن اقتصر على ساعة أو ساعتين، التقى خلالها الشاب صحيح الجسم والعاطل بمتسول معاق، إلا أن القصة عادت إلى الماضي، واستعادت حكاية ذلك المتسول، وتداخلت بالسرد علائق وشخوص ثانوية، لكنها اقتصرت على ما قدمه الراوي، ففيما اقتصر المكان على صنعاء وتحديدا في ذلك النزل الشعبي، تجاذبت حكاية المتسول أمكنه أخرى كجبل صَبر في محافظة تعز/ جنوب غرب، وهي بلدته التي ولد وعاش فيها، وكذلك مكة في السعودية، التي مارس فيها بعض جولات التسول واستطاع من خلالها بناء منزله.
جاء ترتيب القصص وفقا لما أراد الكاتب أن تصل به القراءة، فالقصة الأولى «هكذا ظنت» تحكي قصة امرأة تعيش حياة تعيسة مع زوجها، فقررت ألا تنصاع لقدرها الاجتماعي فتمردت على واقعها وخلعت زوجها، إلا أن ثمن تمردها كان باهظا في مجتمع لا يعترف باستقلالية المرأة بعيدا عن الرجل، فارتبطت بزوج عادت من خلاله إلى مبتدئ المعاناة. القصة دعوة للتمرد على المسلمات الاجتماعية، بل لقد كانت القصة جريئة في دعوتها، خاصة في ما حملته من حوار مع الدين، ولعل ذلك التمرد الذي تدعو إليه هو ما ناقشه عدد من قصص المجموعة وتجاسر له أبطال تلك القصص مثل «منصور» في قصة «رابعهم كلبهم» و«جيبوتي» في قصة «جيبوتي»، التي يدعو فيها الكاتب إلى امتلاك الشجاعة واستقلال القرار وعدم الانصياع لتابوهات القطيع، وإن كان ثمن ذلك باهظا، إلا أن ثمن الخوف أكبر، وهي الأفكار التي تعامل معها السارد من خلال أبطال جدد لم نألفهم في قصص أخرى.
عقب القصة الأولى جاءت القصة الثانية، التي تُعدّ أكبر قصص المجموعة، وهي قصة «20 ميغا بكسل» وحملت عنوانها المجموعة، وقد ناقشت القصة تأثيرات الغربة التي تسلب منك حقيقة ما كنت عليه في وطنك، من خلال حكاية عدد من شباب الفلبين المغتربين في السعودية، وتمحورت على (اليكس) و(آرت)، والأخير اشترى كاميرا لزوجته بدقة 20 ميغا بكسل، وبعث بها مع أحد الأصدقاء، إلا أن العذاب النفسي والشك الدائم بزوجته ذهب به لمستويات انهت مهمته في الحياة، مرتكبا جريمة بشعة بحق زميليه في السكن (جيسون) و(لويد)…لقد كانت قصة ثقيلة الوزن في الفكرة والأسلوب، وعكست سردية عالية ورؤية ثاقبة في معالجتها لقضية الغربة بعيدا عن الوطن، بعيدا عن الذات بكل قسوتها وخساراتها.
على مستوى الخطاب السردي، فقد عكست القصص وعيا ثقافيا بالواقع العربي وخطابا سميكا في رؤيته ولغته. حاولت القصص معالجة كثير من تناقضات الواقع العربي وعدد من إشكالات الوعي العام، بمستويات رمزية مختلفة تفتح القراءات على فضاءات عديدة، معتمدة على لغة لم تكن هدفا أجوفا، بل كانت جزءا من الفسيفساء الجمالية للبناء والخطاب السرديين، وعكست مدى وعي الكاتب باللغة وما يريده منها؛ ولهذا فقد كانت علاقته بها في قصصه متميزة بقدرته على توظيفها في سياقاتها التعبيرية والتصويرية والدلالية؛ فلم نجده متباهيا بعلاقته بها حدا تجاوزت اللغة علاقتها بالموضوع، مثلما لم نجده متواضعا في التعامل معها، بل كان متزنا في استخدامها بما يعبر عن طبيعة الموقف والفكرة والرؤية التي تُسند الحكاية… كما عكست علاقته الرفيعة بقاموسه اللغوي، وهو قاموس ثر يتكئ على قراءات لا تتوقف يتخللها افتتان باللغة وعشق لسبر أغوار جمالها؛ ولهذا نجد لغته مكللة بالفتنة والجمال في علاقته بموضوعاته، تعبيرا عن خطابه وموقفه مما يريد إيصاله من رسائل حملتها قصصه، وهي رسائل كبيرة نجدها مختزلة بكثافة عالية ينثرها على رفوف مضيئة في كل قصة. لقد استطاع الكاتب التعامل مع الواقع والخيال في سياقات قصصه مثلما كان كذلك في التعامل مع سكب أفكاره وصوغ لغته.
مشاركة الخبر: