عبد الحميد صيام
اليمن: دقائق خمس قبل منتصف الليل
[ الجمعة, 23 أغسطس, 2019 ]
نكاد نرى الآن نهاية المشهد التراجيدي اليمني، فالصورة الآن واضحة: مسلسل التفكيك الذي حذرنا منه منذ بداية «عاصفة الحزم» يقترب من النهاية. قوات الحزام الأمني بقيادة المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من دولة الإمارات العربية، يحتل مدينة عدن بما في ذلك القصر الجمهوري في بداية هذا الشهر، ويتوجه نحو أبين. تفسير هذه الخطوة لا تخرج عن أحد أمرين: فهي إما منسقة سلفا مع السعودية وبمباركة منها، كنوع من توزيع الأدوار لفكفكة اليمن، وإعادة دولة الجنوب تحت العباءة الإماراتية، أو أن هناك شرخا كبيرا قد وقع بين الحليفين اللذين قاما بإنشاء التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، وأطلقا «عاصفة الحزم» في مارس/آذار 2015. سوف نعرف قريبا أي التفسيرين أدق، بعد اجتماع جدة المقترح لاحتواء الموقف الإمارتي إذا ما تم اللقاء.
هذا التحرك الأخير ينهي الادعاء بأن «عاصفة الحزم» أطلقت لدعم الشرعية ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي، وهزيمة الانقلاب الحوثي المدعوم من إيران. لقد اتضح الآن أن هناك مصالح أعقد وأبعد بكثير من دعم الرئيس الشرعي.
لقد تعددت الجبهات وتعددت الميليشيات وشملت العمليات العسكرية مناطق لا وجود للحوثيين فيها، وتم الاستيلاء على جزر ومحافظات بعيدة عن ساحة الاشتباك، وكأن هناك اتفاقا غير مكتوب لتفكيك اليمن وتقطيع أوصاله، حتى لا يعود بلدا واحدا موحدا عزيزا سيدا بسكانه المتجانسين، المنتمين إلى مرجعية دينية وثقافية وحضارية متشابهة.
اليمن يشهد الآن أكبر كارثة إنسانية في العالم تطال نحو 80% من شعبه، ومن ينجو من القصف والقنابل والألغام تتصيده الأمراض، أو سوء التغذية الحاد، أو تفجيرات «القاعدة» و»داعش». فمن يتحمل ما وصل إليه اليمن من مآسٍ، وها هو على أبواب التفكك؟ أطراف أربعة ساهمت وتساهم في تراجيديا اليمن وسردها هنا لا يعني بالضرورة التساوي في المسؤولية.
أولا: مسؤولية الحوثيين وحليفهم علي عبد الله صالح ثلاث وثلاثون سنة خضع اليمن لحكم الطاغية علي عبد الله صالح. حوّل صالح اليمن إلى بلد خراب متخلف من بين البلدان الأكثر فقرا في العالم، رغم موارده الجمة وموانئه الاستراتيجية. انتشرت في عهده النزاعات والحروب الداخلية والخارجية. يتعاون مع السعودية ضد الحوثيين، ومع الولايات المتحدة ضد «القاعدة»، ومع القبائل ضد الأحزاب، ومع الجنوب ضد الشمال، وينقلب عليهم ويرسل جيشه فاتحا غازيا منتهكا لكل الأعراف الدولية والقوانين الإنسانية. وعلى طريقة مبارك – القذافي، بدأ يعد ابنه أحمد للتوريث، وسلمه قيادة الحرس الجمهوري المؤهل المدرب، وسيطر على الموارد وكدس الثروة وقسم المناصب على أهله وذويه.
وعندما قامت عليه ثورة فبراير/شباط 2011 أخذته العزة بالإثم، فلم يقبل الانحناء أمام العاصفة، إلا بعد أن تأكد أنها عاتية قد تجرفه بعيدا إلى الهاوية. قبل بالتنازل الجزئي مؤقتا فقامت السعودية بتأهيله، ورمي حبل النجاة له ولأعوانه، كي لا تصل الثورة نهايتها الحقيقية. أطلقت ما سمي بالمبادرة الخليجية التي أنقذته وأبقته في اليمن بدون مساءلة، ليتابع مسلسل الخراب والتخريب.
وكي يضمن البقاء والانتصار تحالف مع الحوثيين، الذين كانوا قد اكتووا بنيرانه منذ عام 2004. الحوثيون من جهتهم استغلوا حالة الفوضى، مستندين إلى مخزون من القهر بسبب التهميش والإقصاء فاستولوا على محافظة صعدة وعمران. شعروا بزهوة الانتصار فاتفقوا مع صالح وابنه أحمد لضم قوات الحرس الجمهوري إلى ميليشياتهم، لتقاسم الانتصار والاستيلاء على صنعاء وبقية اليمن. فما كان منهم إلا أن دبروا عملية انقلاب شامل ضد الشرعية في سبتمبر/أيلول 2014 واستولوا على القصر الجمهوري، وحجزوا الرئيس عبد ربه منصور هادي ووزير دفاعه، واستولوا على المقرات الحكومية. وبعد أن فرّ الرئيس من الأسر وبطريقة غامضة وصل عدن ثم السعودية.
تصرف الحوثيون بطريقة عنجهية وعليائية، فتمددوا إلى ولايات الجنوب ظنا منهم أن الطريق سالك إلى عدن فحضرموت. فقام سكان عدن ودافعوا عن مدينتهم وحموها من الاجتياح، قبل أشهر من تدخل التحالف. استطاع الحوثيون أن يستولوا على معظم محافظات شمال ووسط اليمن، وفرضوا على الناس التجنيد ودفع الضرائب، وتدخلوا في المناهج وأنشأوا قيادة تدير البلاد باسم المجلس السياسي الأعلى. لكن المجتمع الدولي لم يقبل بهذا الانقلاب فاعتمد القرار 2140 (نوفمبر/تشرين الثاني 2014) تحت الفصل السابع، وأدرج القيادة الحوثية وعلي عبد الله صالح تحت طائلة العقوبات الدولية، ثم اعتمد القرار 2216 (إبريل/نيسان 2015) كخريطة طريق للحل السياسي، تبدأ بتفكيك الانقلاب والانسحاب من المدن ونزع الأسلحة. إلا أن هذه الدعوات لم تلق أذنا صاغية لدى التحالف الحوثي – صالح، واستمرت القوات التابعة لهما بتعزيز قدراتهما العسكرية والتدريبية والتكنولوجية بدعم من إيران، إلى أن رأى الحوثيون أنهم ليسوا بحاجة إلى صالح فقتلوه بطريقة خسيسة يوم 4 ديسمبر/كانون الأول 2017.
ثانيا: مسؤولية السعودية، السعودية لا تكن خيرا لليمن لا الآن ولا في الماضي، وهي أول من شن حربا على اليمن بعد ثورة 26 سبتمبر 1962. وما فتئت منذ تلك الثورة إلى الآن تتدخل في الشأن اليمني، مرة علانية ومرات بطرق ملتوية وسرية. ولذلك فإن تدخل السعودية بإطلاق «عاصفة الحزم» بداية من 25 مارس 2015 لا يعني أن الهدف إنقاذ الشرعية، وإعادة الوحدة والسيادة إلى اليمن. فقد بدأت تقصف المواقع الحوثية من الجو ظنا منها أنهم سيهربون إلى صعدة ويحاصرون هناك ويهزمون.
لكن القصف الجوي شمل البنى التحتية والمدارس والمستشفيات والأعراس والجنازات والأسواق. القصف الجوي العشوائي دمر البلاد ونشر الخراب وشتت السكان، كما أن الحصار الذي فرضته على الموانئ البحرية والجوية، بما فيها مطار صنعاء قد فاقم الأوضاع الإنسانية، فانتشرت الأمراض المعدية خاصة الكوليرا وتعرض 2.5 مليون طفل لسوء التغذية. كما أن التحالف ارتكب جرائم ضد الأطفال ما يرقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، وليس مفاجئا أن يدرج اسم التحالف في كافة تقارير الأمم المتحدة المعنية بانتهاك حقوق الأطفال منذ عام 2015.
والأمر الذي يثير التساؤل حول الهدف الحقيقي من «عاصفة الحزم» هو اندفاعة السعودية بقواتها لبسط السيطرة على محافظة المهرة، في يناير/كانون الثاني 2017. وقد سيطرت القوات العسكرية التابعه لها على منفذي شحن وصرفيت وميناء نشطون ومطار الغيضة الدولي. كما وسعت السعودية سيطرتها على مينائي المخا والخوخة على البحر الأحمر بعد تخفيض الإمارات لقواتها هناك.
اليمن يشهد أكبر كارثة إنسانية في العالم تطال نحو 80% من شعبه، ومن ينجو من القصف والألغام تتصيده الأمراض، أو تفجيرات «القاعدة» و«داعش»
ثالثا: مسؤولية دولة الإمارات، أما مسؤولية دولة الإمارات في ما يجرى لليمن من خراب ودمار وتفكيك فهي واضحة تماما، أشار إليها المبعوث الدولي مارتن غريفيث في مجلس الأمن يوم الثلاثاء الماضي. فهدف الإمارات من دخول الحرب لا علاقة له بهزيمة الانقلاب الحوثي، بل الدفع بمصالح الإمارات التي أصبحت تتصرف كدولة عظمى، وعملت منذ البداية على تعزيز وجودها في جنوب اليمن والسيطرة على الموانئ. أنشأت الميليشيات العديدة وصرفت عليها الملايين واقامت لها المعسكرات والسجون ومراكز التحقيق والتعذيب وأهمها: «الحزام الأمني» بقيادة هاني بن بريك ويصل عددها إلى 13000 مقاتل.
وقد منعت هذه القوات طائرة الرئيس هادي من الهبوط في مطار عدن، وهزمت قواته عسكريا وطردتها من محيط المطار في فبراير 2017 وعادت مؤخرا واحتلت القصر الجمهوري والمقرات الحكومية، بالضبط كما فعل الحوثيون في صنعاء. أضف إلى ذلك قوات الدعم والإسناد وقوات النخبة الشبوانية وعددها 3500، وقوات النخبة الحضرمية وعددها 2700، وقوات حراس الجمهورية بقيادة طارق علي عبد الله صالح الذي جمع أنصار حزب المؤتمر ليثأر لمقتل والده.. لكن غرق الإمارات في المستنقع اليمني، يبدو أنه بدأ يؤثر استراتيجيا على اقتصاد البلاد وسلامتها فقد قررت من جهة أن تسحب بعض قواتها، ومن جهة أخرى تدعم المليشيات المحلية التي أنشأتها للاستمرار في مخطط التفكيك والانفصال.
رابعا: مسؤولية الحكومة الشرعية، أما المسؤولية الرابعة فتقع على عاتق الرئيس اليمني المعترف به دوليا، عبد ربه منصور هادي، الذي تنقصه القيادة والحزم والاستقلالية، حيث ظل في فندقه بالرياض رهينة للموقف السعودي، ولا يكاد يحس به أحد في اليمن، بل إن هناك إجماعا على رداءة قيادته، وانتهاء صلاحيته، ووجوده لا يخدم إلا الموقف السعودي الذي يتحرك في الموضوع اليمني تحت غطاء دعم الشرعية.
وأفضل ما يلخص وضع اليمن الآن ما جاء في تقرير لجنة الخبراء: «يكاد اليمن، كدولة، أن يكون قد ولى عن الوجود. وبدلاً من دولة واحدة، هناك دويلات متحاربة، وليس لدى أي من هذه الكيانات من الدعم السياسي أو القوة العسكرية ما يمكنه من إعادة توحيد البلد أو تحقيق نصر في ميدان القتال». فهل هناك فرصة أخيرة لإنقاذ اليمن في الدقائق الخمس الأخيرة قبل إسدال الستار على اليمن كدولة واحدة موحدة يزيد عمرها عن سبعة آلاف سنة؟
نقلا عن القدس العربي
مشاركة: