سليمان ماجد الشاهين
سقطرة.. والزهراء
[ الاربعاء, 30 مايو, 2018 ]
سقطرة الغافية في أحضان البحر العربي ومياه المحيط الهندي لعلها تمثل الحد الجنوبي الذي خفقت عليه اشرعة سفن الخليج العربي في طريقها من وإلى شرق افريقيا.. وبطبيعة الحال هذه الجزر وما حولها واحد من الملاذات أو المحطات لأساطيل السفن الأوروبية العابرة إلى آسيا أو العائدة إلى أوروبا.. وفي كل الاحوال تبقى سقطرة شاهداً على التاريخ في حلمها الذي لا يوقظها منه سوى بعض المطامح الإنسانية العابرة أو الأعاصير الطبيعية المزمجرة كما حالها اليوم.. ولكن في تفاصيل تاريخها مشهد يستحق أن يستريح إليه من يعشق فصوله في منطقتنا الغنية بأصالتها.. ولعل أصدق الروايات التاريخية التي يطمئن إليها ضمير الراوي أو ذهن المتابع ما كان موثقاً بالكلمة، مدعوماً بالأثر الماثل للعيان.
فلنعد إلى اوائل القرن الثالث الهجري حيث الإمامة الثانية للدولة العمانية الراسخة في اعماق التاريخ.
وفي عهد الإمام الصلت بن مالك الخروصي الذي امتدت فترة حكمه على مدى خمسة وثلاثين عاما بين 237 هـ ــ 272 هـ كانت سقطرة وما حولها من أرخبيل تمثل أقصى الحدود الجنوبية البحرية للدولة، ويحكمها الوالي أو العامل باسم الإمام الصلت، وتعرضت لغزو من الأحباش وقتل الوالي العماني وكثير من أهالي سقطرة العمانيين واستبيحت الجزيرة وأهلها للغزاة، وبيت القصيد هنا قيام ابنه الوالي المغدور ــ الزهراء بالاستغاثة والاستنجاد بالإمام بقصيدة مؤثرة.. منها هذه الأبيات:
قل للإمام الذي ترجى فضائله
ابن الكرام وابن السادة النجب
اضحت سقطرة من الإسلام مقفرة
بعد الشرائع والإيمان والكتب
واستبدلت بالهدى كفراً ومعصية
وبالآذان نواقيساً من الخشب
قل للإمام الذي ترجى فضائله
بأن يغيث بنات الدين والحسب
أقول للعين والاجفان تسعفني
يا عين جودي على الأحباب وانسكبي
ما بال «صلت» ينام الليل مغتبطاً
وفي سقطرة حريم باد بالنهب
يا للرجال اغيثوا كل مسلمة
ولو حبوتم على الأذقان والركب
حتى يعود عماد الدين منتصباً
ويهلك الله أهل الجور والريب
وتحمل قصيدة الزهراء دلالات لا بد من التمعن فيها لمعرفة مكانة هذه الامرأة الأبية، فهي تخاطب بما يستوجبه الموقف ويستحقه الامام من احترام وتوقير في مطلع المخاطبة، ونسمعها وهي تستنهض همته إلى درجة المحاسبة في قولها ما بال صلت ينام الليل مغتطباً.. الخ، هذا البيت وحده يعبر عن الأنفة وصلابة النفس ازاء الأحداث المحيطة بها وبأهلها.. ومسؤولية الامام في حماية مواطنيه، وهو الأمر الذي لم يخذلها الامام فيه، إذ لم يكد يستطلع من رسول الزهراء بعد وصوله إلى البر العماني تفاصيل الأمر ويطلع على قصيدتها التي تأثر بمضمونها حتى بادر باعداد جيش المقاتلين حملهم أسطول يتجاوز عدده مئة سفينة وفق مقاييس ذلك الزمان، واللافت للنظر التدبير الدقيق للاعداد للحرب بعد الاستعداد العسكري المتمثل في وثيقة العهد التي تشكل قانوناً أخلاقياً للمحاربين، التي ورد فيها «كفوا أيديكم وألسنتكم عن دماء الناس وأقوالهم وأعراضهم بغير الحق، واجتنبوا قول الزور وأكل الحرام ومشارب الحرام وجماعة السوء ومداهنة العدو…إلخ»، ثم تلتها الأحكام التفصيلية الأخرى، وبهذه القوة المادية والمبادئ الأخلاقية استعيدت سقطرة من أيدي الاحباش، ولعلنا لا نتجاوز الظن أو الحقيقة حين نقول عن الزهراء إنها الشخصية الوفية لطبيعة المرأة العمانية المعتدة بذاتها. ولنا في الرواية الموثقة عن مثل هذا الوصف عند بداية تلقي النبي محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة الإلهية، إذ بادر بعض العمانيين بالتوجه إلى مكة لاستطلاع هذا الأمر عن هذا الدين الجديد، فلم تكتف النساء بذلك بل تكون وفد منهن متوجهات الى مكة ومقابلة أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها لمعرفة مكانتهن في هذا الدين، واذ رحبت بهن أم المؤمنين اجابتهن بأسلوب رقيق بقولها «سمعت حبيبي عليه السلام يقول: ليكثرن وارد حوضي من أهل عمان» وأحسب أن هذا الوفد النسائي سعد بهذه البداية وعاد بأغلى جواب.
واذا كانت سقطرة الزهراء محور هذا الموضوع، فإن صدى وا معتصماه وعمورية يدفع بالقلم الى ذكر تقارب الزمان بينهما، رغم تباعد المكان، فالزهراء من اقصى الجنوب العربي بينما اختها في اقصى ما وصلت اليه الدولة العربية شمالاً. واستغاثة الزهراء بتاريخ 237 هـ بينما صيحة وا معتصماه عام 223 هـ – 838م، حيث استجاب المعتصم لهذا النداء، فاحتل عمورية في ذلك العام وخلدها ابو تمام بقصيدته المعروفة:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
وفي متونهن جلاء الشك والريب
وما أشبه الليلة بالبارحة رغم البون الشاسع في نتائجها.
نقلاً عن صحيفة القبس الكويتية
مشاركة: